ما أجمل الماضي وناسه وقيمه ومهنه، وما أجمل حين نسرده بتفاصيله الدقيقة، وحين تلامسنا أجواؤه عن من يحدثنا ويسرد لنا قصصه، وكأننا نعيشه، فلم يغب عنا وعن فكرنا وعن يومنا، الماضي هو آباؤنا وأجدادنا، قيمنا وعاداتنا وموروثاتنا، من منا اليوم لم يتذكر أيامه الجميلة، ورحلات الغوص، واللعب تحت المطر بعفوية الصغار، وفوق الرمال ترسم الأحلام والطموحات، من منا لا يسبقه الحنين، ويلامسه الشوق، ويأمل العودة للماضي بكل بساطته وعفويته، الحب والود والوفاء والصدق والنفس الطيبة، من منا لا يتأمل صوره ومجسماته حين يراها، ومعها تتوارد لدينا الأفكار لتنقلنا من عالم الحياة الصاخبة المعاصرة، من الوجود إلى اللا وجود، لنعيش لحظات من ماض عريق بكل صوره وكأننا نتعايش معه لتبقى آثاره وذكرياته معلقة ومرئية تسترجعها ذاكرتنا مع كل فعالية ومناسبة، ألسنا بحاجة للعودة للماضي ولو سويعات، لنرى تشفي عبيره برائحة آبائنا وأمهاتنا، ألم نقف بعمق وآهات أمام صوره التي ترد إلينا عبر المنصات الاجتماعية ونتداولها ليعيش غيرنا معها.
ها هو الماضي اليوم يتجسد أمامنا كل عام بتفاصيله على امتداد شاطئ “كتارا” في تفعيله للمهرجان السنوي التراثي في نسخته العاشرة “المحامل التقليدية”، التي هي رمز من المكون الاقتصادي لأهل الخليج قبل استخراج البترول، بالرغم من استثنائية هذا العام وعواصفه العاتية برياح جائحة كورونا، إلا أن المحامل بأشرعتها الأفقية الممتدة على ضفاف خليج كتارا استطاعت أن تصارعها بشموخ، كما كانت تصارع الأمواج القاسية والرياح العاصفة في عمق البحار، بفضل وإصرار وجهود القائمين والمسؤولين على تنفيذ هذا المهرجان السنوي – في ادارة كتارا- لتعطينا لوحة جمالية فنية بإطار قوي من التحمّل والصبر والأمل الذي كان يطوق الآباء والأجداد من أجل البحث عن الرزق ولقمة العيش، والذي عبر عنها الشاعر مبارك بن سيف في قصيدته “بقايا سفينة غوص”
اذكري ذلك الشراع …. باسطا ذراعيه للريح
ممدود الذراع … كجناح النورس الباهي البياض … هو والإعصار يمضي في صراع … وانظري تلك الحبال … يا ترى كم من يدٍ مزقتها كالسيوف المرعبة.
…. ها هي رمال بحر “كتارا” تسطر لنا تلك الصورة بكل مضامينها الشكلية والمعنوية، الاستمتاع والمعرفة وترسيخ الموروث، بما حوته من محامل خشبية بصورتها التراثية القديمة وبأشرعتها وحبالها وشباكها وحُصرها وعريشها، وما تحمله من معان جميلة تفرزها علاقة الإنسان بالبحر، وما يقتات منه من صبر وتحمّل ورباطة جأش وأمل، وما تزوده رحلات الغوص والتجارة ونقل البضائع والمسافرين من آفاق فكرية وثقافية ولغوية عبر مرورها بمختلف الدول والبحار والمحيطات، والاحتكاك والتمازج بالآخر وموروثاته، من موانئ الهند إلى زنجبار إلى إيران إلى موانئ الخليج، ودول أفريقيا، رحلات حافلة بالمخاطر والمفاجآت.
الجميل في جو المهرجان التنوع والشمولية والمشاركة، استقطب الكثير من الزوار، لم تطوقهم الجائحة ولم تمنع خطواتهم من الزيارة والاستمتاع بالمعروضات الخاصة بالبحر من عمان إلى الكويت وقطر، معروضات خاصة لأدوات الصيد، واللؤلؤ وكيفية استخراجه والملاحة، وصناعة المحامل والسفن التقليدية، وطريقة تصنيعها، جو يلامس أطرافه الماضي بعبقه التاريخي يسرد لنا صوره لتبقى معلقة في أذهان الأجيال القادمة قبل أن تلفحها رياح التغيير والتطوير اللذان قضيا على كل جميل لماض ما زلنا نتغنى به وبمعانيه وقيمه الجميلة.
شكراً لإدارة “كتارا” على تلك المساحة الزمنية من كل عام لإحياء هذا الموروث العريق… والله الموفق.