لا يختلف اثنان على أن القوة الاقتصادية هي المؤشر التي تحرك الفكر الإنساني، ومعها انقلبت موازين الحياة، خاصة الإنسانية والاجتماعية، وبدأ التسارع في الامتلاك والاستغلال والظهور يطفح على سلوك الأفراد باختلاف المجتمعات والثقافات، وعلى المفاهيم الدينية والأخلاقية، الذي معه استشرى تداول مصطلح الفساد وظهور فئة الفاسدين وأبطاله، هذا المصلح “الفساد” فعّل إقامة المؤتمرات لمكافحته، والبحث عن صنّاعه ومروجيه على مستوى العالم، باتفاقية صادرة عن الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وانضمت إليها أغلب الدول العظمى من الأعضاء، قابلها مؤتمرات النزاهة والشفافية لمكافحة الفساد، التي تهدف إلى منع الفساد واعتباره جريمة جنائية ليس في الرشوة واختلاس الأموال العامة، بل كذلك المتاجرة بالنفوذ وإخفاء عائدات الفساد وغسلها، كما هو الفساد في القطاع الخاص حسب ما جاء في الاتفاقية.
على المستوى الدولي نرى أن الفساد نخر في هيكلها الإداري، خاصة أنظمتها الحاكمة السياسية، التي أودت بدولها إلى الحضيض من الفقر والنزاعات والجهل بين مواطنيها، نماذج واقعية نراها، ويحكم عليها بفساد أنظمة حكوماتها وسياستهم، ولكن يبقى السؤال حاضراً من الذي روج لتفعيل الفساد كمصطلح متداول؟، أليس هم الفاسدون في الأرض، المؤتمنون على المال العام؟، أليس النفس الأمارة بالسوء التي تتعامل مع المال بأحقية استغلاله لمنفعة شخصية ومورد خاص؟، أليس وجود بيئة فاسدة محفزّة وضعف دورها الرقابي؟، أليس هو الطمع والجشع اللذان يغلبان على سلوك وأخلاقيات البعض للحصول على لقب الامبراطورية المالية في امتلاك المشاريع والشركات والصفقات والاستثمارات في الداخل والخارج؟، أليس هي الحصانة الوظيفية العالية التي يتخذها البعض من أصحاب المناصب العليا والنفوذ درعاً واقياً في استغلال المال العام والاستفادة من المنصب دون رقابة؟، وغيرها من الأسباب، أليس هو فقدان الأمانة والضمير المحاسب في نفوس من تسول له نفسه إهدار المال العام وضياعه واستغلاله لمصالح خاصة؟.
لا يغيب عنا اليوم اهتمام الدولة بمحاربة الفساد ومعالجته خاصة ما يتعلق بالمال العام واستغلال المناصب والموقع الاجتماعي الرفيع في الدخول في وحله، والإجراء المتبع في البحث عن خيوطه الممتدّة، من خلال الأفراد المتعاونين أو امتلاك المشاريع الضخمة المشكوك في أمرها، والتي جعلت وسائل التواصل تتداول الأسماء المعلنة والمتهمة، وتحويل الدولة المتهمين للنيابة العامة وتفعيل مبدأ من أين لك هذا؟، هذا الاهتمام ترجمة حقيقية للحرب على الفساد الذي استشرت سمومه في المجتمع نتيجة سوء الإدارة، وغياب الوعي الرقابي، وتعيين الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، واستغلال النفوذ الوظيفي، كما هو تكليف شخص واحد بمهام ومسؤوليات متعددة، وكأن كما يقال في المثل “ليس في البلد إلا هذا الولد”، وغيرها من الأمور المعينة على انتشار الفساد، والتي تعرقل جهود التنمية، وعدم الاستقرار والأمان، وهذا ما أكدّه سمو الأمير حفظه الله في افتتاح دور مجلس الشورى الثاني والأربعين 2013 أنه “لا يمكن أن تنفّذ سياسة التنمية البشرية إذا كنّا لا نحاسب على التقصير، أو سوء الإدارة، أو الفساد”، وها هي المكافحة بدأت تشق طريقها بعد أن طفح كيل الفساد في المجتمع وكثر المتعاملون معه، فالاستغلال للمال العام من خلال المناصب والسلطة والمنفعة ليس حديث العهد، إنما هو امتداد لسنوات مضت في غياب التساهل والمصلحة والعلاقة الشخصية، وغض الطرف، واتباع منهج شيلني اشيلك، ومزاحمة الآخرين في أرزاقهم والاستيلاء على حقوقهم، والإعلان عن قضايا الفساد الآن بعد أن طفح كيل الفاسدين والمستولين على المال العام لخدمة مشاريعهم الربحية والاستثمارية، وامتلاك الأراضي الشاسعة بطريقة غير مشروعة على حساب ضياع حقوق الآخرين والمزاحمة في الوظائف أمن وحصانة وأداة من أدوات القضاء عليه، لما ينتج عنه من رسائل تحذيرية لمن تسول له نفسه استغلال المال العام بحكم المنصب الوظيفي العالي المؤتمن عليه.