جميل أن تكون الموروثات الاجتماعية من ضمن اهتمامنا بالتفعيل والمحافظة والتدعيم من قبل المجتمع بمكوناته ومؤسساته ووزاراته، والأجمل حين تبقى عادة تتناقلها الأجيال كما هي عليه، حتى لا تفقد صفة الموروث، وتبقى هي البصمة الثابتة للتراث في فكر الأجيال مع تعاقب الأزمان، دون تغيير وتجديد وتطوير وتشويه لما كانت عليه بثوبها ونمطها، وإلا كيف تكون تراثاً!، الجميع استنكر هذا العام المستجدات الشكلية التي دخلت عرضاً وطولاً على جماليات الاحتفالية بليلة “القرنقعوه”، تلك العادة الاجتماعية الجميلة القيّمة بما تحمل من عادات وسلوكيات المجتمع قديماً، والتي تذكرنا بلمسات الماضي وبساطة الماضي وعبق الماضي ينتظرها الأطفال والكبار سنوياً بأهازيجها وأغنياتها وكلماتها وزيّها وهداياها البسيطة، مع الأسف تحولت إلى مسخ بفعل ما طرأ عليها من المستجدات أسقطت عنها صفة الموروث، هل سمعنا في الماضي استقبال الاحتفالية بليلة “القرنقعوه” بمصاحبة فرق موسيقية رجالاً ونساءً من جاليات مختلفة الأوطان والأجناس واللغات وما يصاحبها من رقص وغناء وفي الأيام الفضيلة من هذا الشهر، هُمشت معها الكلمات الأصيلة المعهودة التي يردّدها الأطفال.
إذن كيف يكتسب أطفال اليوم مهارات شعبية قديمة، وقد جمدّت هذه المهارة داخل علب مصنعة لتلك المناسبة كتجارة رابحة للتجار، ومباهاة ومنافسة لبعض الأسر، بمختلف الأحجام والألوان والأسعار والأنواع، ثم تُرمى ليبقى التنافس هو سيد الموقف، ويبقى الإسراف الذي لا مبرر له هو الحكم الصادر للعقلية التي تتعامل مع هذا الموروث حسب ثقافتها ووعيها بمعنى قيمة الموروث وكيفية المحافظة عليه، وكيف نعّود الطفل على البساطة في التعامل مع المناسبات وهو يرى سلوكيات الإسراف والتبذير والتكلفة والتباهي بمنظار الأسرة التي يعيش بين أضلعها ويتشرب منها تلك السلوكيات!، وستبقى له مستقبلًا عادة متوارثة من التقليد، بجهالة الموروث القديم، فهل نعي ذلك، أم أن الترف والمغالاة أعميا أبصارنا وعقولنا؟.
… ما أجمل كلمات وأهازيج الأغنية التراثية لحناً وغناءً وكلمات، ما أجمل معانيها القديمة التي عادت إلينا بعد دخول بعض الكلمات المصنعة أفقدتها الحس القديم للموروث لتعود بثوبها القديم، ما أجملها حين يردّدها الأطفال ومعها يدخلون البيوت من بواباتها بكلماتها بما تحمل من قيم سامية توجه لأهل البيت من الدعوات “بيت مكة يوديكم” العطاء “عطونا الله يعطيكم” والدعوات لأبناء البيت بمختلف الأسماء المذكورة في الأغنية.. وغيرها.
ما أجمل حين يستشعر الأطفال كيفية الحصول على المكسرات بقيمتها البسيطة وأشكالها وتنوعها وهي توضع في الكيس الذي يحملونه بكل فرحة وبساطة، وما زالت بعض الأسر والمؤسسات تحتفل بهذه الليلة بنمطها القديم الموروث، لكن التغيير العمراني المصاحب لعملية التنمية والامتداد السكاني، ومعه غاب مصطلح “الفريج” وما يحتويه من تداخل بين الأسر والجيران، أثر على عدم المحافظة على مسايرة هذا الموروث كما كان عليه بتعامل الأطفال مع ليلته بالدوران بين البيوت لأخذ “القرنقعوه”، وأصبح الاحتفال داخل البيوت محصورًا مع أطفال العائلة، وكذلك فعلت الكثير من المؤسسات والهيئات، لكن رياح المغالاة والإسراف والتبذير التي يجري في تيارها البعض أفقد هذا الموروث جماليات الماضي وأصالته الروحانية.
…. فاصل زمني قصير ما بين الاستقبال والوداع كلمح البصر ستنطوي صفحات هذا الشهر الفضيل بعطائه وخيراته وعباداته ودعواته، استقبلناه ضيفا واليوم ننتظر وداعه ساعات زمنية من عمرنا مرت كسرعة البرق، وما بين الاستقبال والوداع دعوات وعبادات ومشاعر وأمنيات نتمنى أن تلقى الاستجابة والقبول من الله سبحانه، وكل عام والجميع بخير.