العلماء بين ميزان الأرض والسماء

حين يرحل عن عالمنا صاحب فكر وصاحب دعوة وصاحب مبدأ، وتلك سنة الحياة، يصبح مثاراً للجدل والانقسام، وتفعيل الكراهية ضده، وتشتعل الوسائط وتتضارب الأفكار والتحاليل والآراء في تفنيد تلك الشخصية وتوجهاتها ومواقفها، تفصيلاً دقيقاً بالنقد والثناء والمدح والذم كل حسب توجهاته الفكرية، ومدى مطابقتها مع ما يؤمن به وما ينتمي إليه وما يسمعه، خاصة الشخصيات التي لها تأثير مجتمعي وعالمي، لكن ما نستنكره اليوم تطويع المنصات الإعلامية والمجتمعية بالنقد والغيبة وذكر المساوئ للميت بما يتناقض مع الفكر الآخر وسياسة الدولة، وجميعها من المنهيات وتدخل في باب الغيبة التي تعتبر شرعاً من أكبر الكبائر، فأين نحن اليوم من قوله تعالى: “وقولوا للناس حُسناً”.

…… في الأسبوع المنصرم انضم الداعية والشيخ الجليل الدكتور يوسف القرضاوي إلى قائمة من افتقدتهم الأمة الإسلامية، موسوعة متكاملة منهاجاً وشريعة وفقهاً ووسطياً وفكراً، ليكون في عداد الأموات جسداً وروحاً، ولكنه في عداد الأحياء إثراءً وأثراً، بعلمهم ومؤلفاتهم ودورهم وتأثيرهم وأفكارهم ودعوتهم، نماذج مخلدة لا تنسى بذكرهم ومواقفهم في خدمة الإسلام والفكر الإنساني وعلى المستوى العربي والإسلامي، كيف ننسى د. الشيخ الغزالي والشيخ الشعراوي، والشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الله الأنصاري، والدكتور عبدالرحمن السميط، والشيخ ابن باز، والشيخ صلاح أبو إسماعيل، والشيخ أحمد القطان رحمهم الله جميعا، وغيرهم لا يسع المقال لذكرهم، ومازال آخرون منهم أمواتًا، ولكنهم أحياء في ردهات السجون السياسية والفكرية.. حقًا جميعا فقدتهم المنابر الخطابية والإعلامية ودور العلم، كما فقدتهم المظلات الدعوية والإنسانية في مختلف الدول الإسلامية، رحمهم الله جميعًا، لكن عزاءنا لهم أنهم رحلوا إلى جوار ربهم من الدنيا الفانية إلى الدنيا الباقية،، وعزاؤنا للآخرين الباقين أملنا أن يفك الله أسرهم.

……. من هو الشيخ القرضاوي حتى يحتل هذه المساحة من الحديث الإعلامي باختلاف أوساطه ومنابره ومنصاته أفراداً ومجتمعات، من هو حتى يُصّلى على جثمانه في بقاع الأرض صلاة الغائب، ولو امتنع الآخرون تزامناً مع سياسة دولهم، إلّا أن هذا المنع لا يضفي له وعليه أيّ شيء أمام ما خلفّه من ذكر طيب وإثراء معرفي فقهي طيب، وسمعة شعبية طيبة، في الداخل والخارج، جميعنا نخطئ ونصيب، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشهر أقواله “أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقوّمه”، وجميعنا له فكره ومبادئه في التقبّل والرفض لأفكار الآخرين ومنهجهم، فالاختلاف لا يفسد للود قضية، لكن البعض جُبل بطبعه على التصيّد في النقد من أجل النقد، ومهما قيل عنه لا يختلف الأغلبية على أنه رجل ذو هامة عالية فكرية وثقافية وفقهية وسياسية واجتماعية وأدبية، له تأثير قويّ على مستوى العالم بكتبه وخطاباته ودعواته إعلاءً لكلمة الحق، والمطالبة بالوسطية الدينية، تشهد له الجوائز التي نالها، والمؤلفات التي تركها، وطلاب العلم الذين تتلمذوا على يديه، والأماكن والمناصب التي شغلها بدءًا بمعهد الأئمة التابع لوزارة الأوقاف في مصر، ثم الإدارة العامة للثقافة الإسلامية في الأزهر، ثم عميداً للمعهد الديني في قطر ليستقر به المطاف على أرض جامعة قطر التي تولى تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية فيها.. اتسمت مؤلفاته وخطاباته ولقاءاته بالاعتدال والوسطية الميسّرة، بلا إفراط وتفريط، والتحرر من العصبية الفكرية والمذهبية، لذلك قيل عنه من خلال مؤلفاته “إنها تجمع بين دقة الفقيه، وإشراقة الأديب، وحرارة الداعية، ونظرة المتجدد”، هذا هو الشيخ الدكتور القرضاوي، من استل سيفه بالغيبة والنقد عنه، نقول لهم أنتم ماذا صنعتم لأوطانكم وللأمة الإسلامية؟!.

….. رحم الله الشيخ القرضاوي، إذا رحل عنا، وغاب جسده، إلا أن أثره باقٍ، وسيبقى في ذاكرتنا كغيره من العلماء والمفكرين الذين ذكرتهم، وغيرهم الذين سطّروا شعاعاً من العلم والمعرفة والأدب والدين والدعوة والإنسانية في عالمنا الاسلامي والعربي، نسأل الله أن يكون في مصاف الشهداء والأنبياء، ويسكنه فسيح جناته ويلهم ذويه الصبر والسلوان.

عن Aisha Alobaidan

شاهد أيضاً

وزيرة التعليم.. ومبادرة تستحق الإشادة

يقال أول الغيث قطرة، ونحن نستبشر بقطرات خير من خلال تصريح سعادة وزيرة التربية والتعليم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *